• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التأويل وإمكانية بناء العقل الإسلامي

حكمت البخاتي

التأويل وإمكانية بناء العقل الإسلامي

تكشف مصادر اللغة عند العرب في معنى التأويل أنّه حركة الأشياء نحو التكون «فاللبن يؤول» وهي عملية أو حركة التخثر للبن و«النهار يؤول» وهي حركة النهار من الضحى إلى الزوال و«خَشَبات الخيمة تؤول» والخشبات هي الأعمدة أو الآلات التي تُبنى بها الخيمة، وما تؤول إليه هذه الأشياء هي عملية وحركة تحصل بأصالة فيها وليس للإنسان دخل في تكونها، لكن في مصادر اللغة عند العرب أيضاً هناك أشياء تؤول بتدخل الإنسان وعمله ومنها تقول العرب «طبخ الشراب لكي يؤول» و«أوَّلته: أي صيّرته» و«آل: رجع» و«آل مالَه يؤوله إيالة إذا أصلحه وساسه» و«أَوّلّ الكلام تأّوَّله: دَبَّرَه وقَدَّره وأولّه وتأَوّله: فسّره» ولتنتهي مصادر اللغة بتعريف التأويل استناداً إلى «آل» بمعنى رجع فصار تعريف التأويل هو: المرجع والمصير مأخوذ من آل يؤول إلى كذا وكذا أي صار إليه، وأَوَّلته: صيّرته إليه... – راجع معنى القرآن بين التفسير والتأويل، عباس أمير، ص 82 – 90، الانتشار العربي، بيروت/ لبنان، الطبعة الأُولى، السنة 2008م.

 لكن غلب في الفكر الإسلامي لاسيّما الفقهي والتفسيري معنى المرجع أو الرجع أو الردّ إلى الأصل الذي هو النص/ القرآن على معنى التأويل، واقتصر هذا المعنى على ظاهر النص وسطحه الظاهر. قال إمام الحرمين الجويني، التأويل: رد الظاهر إلى ما إليه مآله في دعوى المؤول، وقال أبو الحسن الآمدي: قال الغزالي: التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير بسببه أغلب على الظنّ من المعنى الذي دلّ عليه الظاهر، ثمّ انتقد هذا التعريف ورجّح أنّ التأويل: من حيث هو تأويل، مع قطع النظر عن الصحّة والبطلان، هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه، مع احتمال له، بدليل يعضده.

وكان أبو العباس أحمد بن تيمية يرى قصر وقسر معنى التأويل ومنع التوسع في دلالته الشرعية والإسلامية فيقول: لفظ التأويل قد صار بسبب تعدّد الاصطلاحات له ثلاثة معان أحدهما: يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره، وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة... وينتج عنه الوقوف عند الظاهر... والثاني يراد بلفظ التأويل: التفسير، وهو اصطلاح كثير من المفسرين... وهو تفريغ لمعنى التأويل لصالح مفهوم التفسير الذي لم يرد فيه النص/ القرآن... والثالث أن يراد بلفظ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل منفصل يوجب ذلك...

لكنّ التأويل لا يكون خلاف معنى الظاهر بالضرورة إنّما هو تعدّد معنى الظاهر وهو ما أغفله ابن تيمية ولعلّه عمداً ويتم قوله بـ... وهذا التأويل لا يكون إلّا مخالفاً لما يدلّ عليه اللفظ ويبينه. وتسمية هذا تأويل لم يكن في عرف السلف وإنّما سُمِّي هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين من الخائضين في الفقه وأُصوله والكلام، وظنّ هؤلاء أنّ قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) (آل عمران/ 7). يراد به هذا المعنى. - في هذه الاقتباسات راجع، التأويل عند أهل العلم، الشريف أبي محمّد الحسن بن علي الكتاني الأثري، ص5 - 6، الدار بلا الطبعة بلا السنة بلا، كتب في نهاية تصنيفه أنّه كتبه بمدينة عمان من أرض الأردن عام 1416هـ -.

وبذلك تراجعت أهميّة التأويل بعد قصره وقسره في المعنى الأوّل ونسبة تعريفه الأخير إلى المتأخرين ومخالفتهم للسلف في ذلك المعنى الثالث ممّا وضعه في دائرة الشكّ والارتياب بالنسبة إلى فقهاء الإسلام، وتأثر العقل الإسلامي عامّة بهذا الارتياب فافقده قدرته على التوسع والاتساع فيما يصير إليه من جديد الفكر والمعرفة التي تشترط الصيرورة الدائمة فيما تصير إليه من إنتاج وصيرورة مستمرة.

ويعد التأويل القاسم المشترك بين آليات فهم النصوص المقدسة، وبهذا تتشارك اليهودية والمسيحية والإسلامية في طريقة نشأة الفهم الديني لها، هذا الفهم الذي يتضمن التفسيرات والشروحات في العصور الأُولى لهذه الديانات ثمّ الاجتهادات في العصور المتأخرة، وتنضاف إليها في تلك المشاركة النصوص المقدسة شبه الدينية كالبوذية واللاوية والكونفوشوسية حتى النصوص الوثنية وأساطيرها القديمة تتشارك بآليات التأويل في تكوين الفهم لديها.

 وينتج هذا القاسم عن مشترك آخر هو وظيفة النصوص في حياة البشر في تأسيس المعنى الذي يلجأ إلى الرمز في تعبيراته ونصوصه ليرفد المعنى بإمكانية التجدد والبقاء، وتلك أهم وظائف الرمز في النصوص المقدسة، ولا يتحقّق التجدد والبقاء في تحولات المعنى إلّا بآليات بالتأويل.

 فالنصوص المقدسة تختزل الدلالات الدفينة، وكانت الأساطير القديمة تؤسّس لهذا المنحى في عمل النصوص المقدسة في اختزانها للدلالات، وهذه الدلالات لاسيّما غير الظاهرة هي حقل عمل التأويل، ومن هنا ينخرط التأويل في علم الدلالة بشكل أقوى من بين العلوم الإنسانية - راجع معجم العلوم الإنسانية، جان فرانسوا دورتيه، ترجمة جورج كتورة، ص187، دار الكلمة، الطبعة الأُولى السنة 1430هـ 2009م - لاسيّما وأنّ علم الدلالة يشكّل العلاقة بين الكلمات والأشياء.

 وفي عملية تكاملية في حقل استثارة الدلالات الدفينة في النصوص أو الدفائن المعرفية فيها، تهدف النصوص المقدسة إلى استثارة دفائن العقول وفق الرؤية الدينية الخالصة بتحميلها الأشياء من المعنى ما يدعو دائماً إلى التأمّل والتفكير فيها، وهنا يقول الإمام عليّ ابن أبي طالب «إنّما بعث الله الأنبياء لاستثارة عقول الرجال»، ثمّ من خلال ما تحفزه تلك النصوص على التفكير وآجالة النظر في الحقائق الإلهيّة والكونية والحياتية البشرية - التاريخية.

 لقد تكرّرت عبارات ألا يتفكرون ألا يتدبرون ألا يعقلون في آيات القرآن الكريم ويبدو التفاعل واضحاً بين النص والتأويل في تاريخ الفهم الديني وتكوينات الفكر الديني، وما يمنح العلاقة بالتأويل زخماً أقوى في الأديان أنّ النص الديني الأوّل يكون في لغة علياً تكف عن المباشرة بالفهم أو تماس الفكر بالسطح/ اللفظ حصراً ممّا يمنح التأويل ذلك النطاق الأوسع في تجربة اللوح/ النص - من التلويح بالرمز - في التنزل في غور أبعاده واكتشاف المعاني الكامنة في إشاراته وتلويحاته، ومن الممكن أن نتأول في اللوح المحفوظ بما أنّه مصدر كلّ النصوص الإلهيّة أنّه التلويح بالعلم اللانهائي المحفوظ في جوف الغيب، التلويح به للمصطفين من البشر والملائكة للاطلاع عليه وليس ذلك المعنى للوح الماثل في الأذهان من معنى الألواح المعهودة للكتابة أو الرقم. فاللوح هو الرمز لإمكانية سبر الغور فيه والتنزيل منه في اصطفائية النبوّة في الأديان وهو ما تحمّل دلالته الرواية الإسلامية في نزول القرآن من اللوح المحفوظ - حول اللوح المحفوظ واستقرار العلم الإلهيّ فيه وتنزله منه راجع بحار الأنوار، الشيخ محمّد باقر المجلسي، تحقيق محمود درياب، مجلد 22ص209، دار التعارف/ بيروت الطبعة الأُولى السنة 1421هـ - 2001م -

 والظاهر في النص الديني دون الباطن لا يمنح القدرة دائماً على إدراك المعنى/ الأصل الذي يظل في أغلب الأحيان يستقر في باطن النص في تاريخ الفهم الديني وفق مذاهب الشيعة في الإسلام والتي يذهب البعض منها بعيداً في الباطن والتأويل حتى يجاوزوا المعقول وهم الغلاة من فرق الشيعة، بينما يقف البعض منها عند حدود الاعتدال وعدم تجاوز الرواية عن أئمّة أهل البيت وهم الأمامية، وأمّا أهل السنة فإنّهم يرون المعنى/ الأصل في القرآن في المتشابه من آيات القرآن وفق مصدري التفسير عند أهل السنة وهما ابن عباس وتلميذه مجاهد، إذ يعرف ابن عباس آيات المحكم - آيات الظاهر - بأنّها «ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به «وأمّا آيات المتشابه فهي» منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به» فالحكم يستشف من الظاهر في المحكم من الآيات، وأمّا المعنى فإنّه يدرك في المتشابه من القرآن عامّة من مقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يُؤمن به، وقد عاب ابن عباس على الخوارج «أنهم يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه» أي لا يعرفون المعنى في آيات القرآن، وأمّا عند مجاهد فإنّ المحكم عنده هو ما عند ابن عباس وأمّا المتشابه فأنّه ما يصدق بعضه بعضاً وبذلك يكشف عن المعنى في القرآن دون سند خارجي، لكن نصر حامد أبو زيد يعدّه مقدّمة لما سيقول به المعتزلة من التأويل المجازي للقرآن - الاتجاه العقلي في التفسير، حامد نصر أبو زيد، ص134 – 144، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، السنة 2003م – رغم أنّ المعتزلة اعتمدوا سند العقل، وهو سند خارجي في تفسير ومعرفة المعنى في القرآن والذي يستند إليه معنى التأويل عندهم.

 وجاء في تعريف التأويل عند الإمامية أنّه دفع الإيهام بعد رفع الإبهام ويعني به توجيه المعنى في القرآن بما يرجع به إلى الوجه المعقول من محتملات القرآن - التمهيد في علوم القرآن، محمّد هادي عرفة، ج3 ص25، مؤسّسة التمهيد/ قم، الطبعة الثالثة السنة 1432هـ 2011م – وتبدو علاقة الباطن بالتأويل عند الإمامية أساسية وحاكمة في توجيه التأويل ووظيفته الدينية والتفسيرية، فقد روت الإمامية في الحديث عن رسول الله (ص) قال: «ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن» وقد سأل أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (ع) عن ذلك فقال: «ظهره تنزيله وبطنه تأويله... يجري كما تجري الشمس والقمر» ممّا يفسح مجالاً للمعنى في القرآن يتجدّد كلّما تجدّدت الشمس في مشرقها والقمر في أهلته - م ن، ج3 ص26 - ونستشف وفق مدلول الباطن عند الإمامية أنّ مجرى القرآن وبقائه في الدهر إنّما يكمن في دلالة الباطن/ التأويل وأنّ وراء الظاهر من اللفظ في القرآن يكمن في الباطن المعنى المقصود في القرآن كما يقول الشيخ محمّد هادي عرفة – م ن، ج3 ص26 -.

ولعلّ أبو القاسم عليّ بن الحسين الشريف المرتضى ت 436هـ أوّل مَن أخرج وظيفة التأويل بما هو متعلّق بالمتشابه في القرآن من ضيق الأُفق الذي اكتنفه في تاريخ الفكر الإسلامي، فقد كان محصوراً في أراء ونظريات المجبرة والمشبهة والملحدة كما يقول الشريف المرتضى وما يستدل به هؤلاء من المتشابه بتأويلهم القاصر علمياً وفكرياً، وكذلك يشير إلى استغلال الطاعنين في الإسلام للمتشابه من القرآن، ويرى أنّ ما صنف من كُتُب في هذا الباب من المتشابه في القرآن لم يحط بمعاني التأويل ومراميه في القرآن ولذلك يشرع في تفسير سورة الحمد وأوائل سورة البقرة على طريقة أو منهجية التعدّد في المعاني المستنبطة والمتعدّدة في الآية الواحدة وهو ما يستوفي معنى الباطن/ التأويل في تطبيقه منهجاً في الفهم والتفسير.

 ومنهجية المرتضى تبدأ بأسئلة واقعة تاريخياً أو مفترضة ذهنياً في مجمل آيات القرآن وليس المتشابه حصراً، وبذلك يعمم أسلوب التأويل على القرآن كلّه ساعياً إلى التمهيد في تأويل المتشابه والكشف عن المعنى المتعدّد فيه ولذلك يؤجل القول في تفسير وتأويل قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران/ 7) حتى بلوغها فهو يمهد إلى معرفة التأويل من خلال المحكم والمتشابه في سورتي الفاتحة والبقرة لاسيّما أحرفها الأُولى المقطعة - رسائل الشريف المرتضى، أبو القاسم عليّ بن الحسين المرتضى، ج3 ص287- 305، منشورات مؤسّسة النور للمطبوعات/ بيروت - لبنان - وتكمن وظيفة الآيات المتشابهة في تحريك السؤال والجدل في المعنى منها وفي عامّة القرآن وتتحرّك آلية التأويل بقوّة في العلم الإسلامي لاسيّما علم التفسير وعلم الكلام لغرض الإجابة على هذه الأسئلة المشككة حيتاً والمستفهمة أحياناً وبذلك تكون الرصيد الفكري والعلمي في تراث وتاريخ الإسلام.

 وبالقدر الذي كان الوقوف عند الظاهر أو المحكم لدى الخوارج وهو ما تكشف عنه عبارة ابن عباس وكذلك عند أهل الظاهر وعند أهل الحديث في قبالة أهل الرأي يتسبّب في الجمود الفكري وظهور الحشوية في كلّ أوقات وتاريخ الإسلام ومنشأ السلفية فيها، فأنّ التأويل عند المتكلمين والأُصوليين وفلاسفة الإسلام ومتصوفة الإسلام كان يدفع بالفكر الإسلامي إلى الاستجابة المستمرة إلى التحوّلات التاريخية والثقافية التي مرّت بها الحضارة والأُمّة الإسلامية في زحمة التحدّيات التي واجهتها الأُمّة الإسلامية لاسيّما في تاريخها الوسيط ومنذ القرن الرابع الهجري الذي بدأت فيه موجات الغزو للدولة والحضارة الإسلامية وحتى نهاية الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر الهجري.

وهو ما يؤكّد إمكانية بناء العقل الإسلامي وقدرته على بناء وصيرورة الأفكار لديه من خلال التأويل بالمعنى الذي يفسح المجال أمام العقل وبإضاءة النقل.

ارسال التعليق

Top